سوريون هربوا من جحيم الحرب.. ليقضي الزلزال على ما تبقى من أحلامهم

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

صورة حالكة السواد، يشق غبارها رجال يرتدون سُترات صفراء وخوذ بيضاء يبحثون بين ركام المنازل المتهدمة على من ظل  يلتقط أنفاسه من الضحايا ، ويتشبث بأى أمل فى إنقاذه والإبقاء على قيد الحياة ، يسمعون صوت فرق الإنقاذ تناديهم " نحن هنا ..لإنقاذكم ..هل تسمعنى ..من معك ؟" ، تلك المنقذين هم رجال الدفاع المدني السورى  الذين تطوعوا فى إنقاذ وإنتشال جثامين الضحايا على مدار 24 ساعة ، «بوابة أخبار اليوم» تحاور رجال الدفاع المدنى  عن تلك الحادث الأليم وكيف تعاملوا معه كما يروون قصصاً إنسانية عالقة بذهنهم وتركت بداخلهم آلاماً فوق أوجاعهم.

اقرأ أيضًا| «أطباء بلا حدود»: الوضع في شمال غرب سوريا كارثي بعد الزلزال

الدفاع المدنى ..أبطال الظل 

فجر الإثنين السادس من فبراير الجارى  إستيقظنا على فاجعة الزلزال المدمر الذى ضرب سوريا وتركيا ، ليسرع رجال الدفاع المدنى السوري فى تقديم يد العون ،فهم  خرجوا من رحم الأزمة السورية وتحديدًا في عام 2012، لتقديم الدعم والمساعدة في مكان انعدمت فيه الخدمات العامة وأصبحت الحياة فيه معدمة ، يخاطرون بحياتهم، طوعًا، لمساعدة الضحايا ، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو السياسي.

" كشاف وكاميرا وانابيب أكسجين " تلك هى المعدات البسيطة التى كانت معهم فظلوا ينقبون عن الضحايا يدوياً خشية من إستخدام  آله رفع الأثقال "الونش " والتى قد تسبب

فى زحزحة أحد الأثقال فوق جثامين من يرقدون أسفلها

 

«الوضع صعب جداً.. ولا يمكن  وصفه.. كانت ليلة صعبة أشبه بيوم القيامة.. الجميع يهرول من الخوف وسط صراخ النساء وبكاء الأطفال» بهذه الكلمات بدأ  حسن الأحمد "متطوع بالدفاع المدني" حديثة لـ«بوابة أخبار اليوم» 
منذ 2018 قرر الأحمد أن يتطوع لخدمة الإنسانية بسبب الحرب وما يسفر عنها من قتلى وجرحى ، شهد على الكثير من الأحداث وهو ما تسبب له فى تعرضة لحالة من الإنهيار سواء من شدة الفرح أو الحزن على فراق ذويه خاصه أنه تعرض لصدمة مفجعة عندما فوجئ بأن جميع عائلته تحت الأنقاد  .

يتذكر جيداً يوم الزلزال المدمر الذى لحق بشمال غرب سوريا وتركيا ، قبل أن يحدث الزلزال كان عصفوره الكناري يغرد أكثر من المعتاد  وكأنه ينبهم من قدوم كارثة تنبأ بها من حاسة الأستشعارالذى منحها الله للحيوانات والطيور .

"صوت الهزة الأرضية كان مرعب " ..يصف الأحمد طبيعة الهزة الأرضية  التى أستمرت لمدة دقيقة و37 ثانية فى تمام الربعة وربع فجراً  بأنها مخيفة ، كانت الهزات متتالية ، وبعدها حل ظلام دامس فى البلاد بعدما تسبب الزلزال فى إنقطاع التيار الكهربى  والأنترنت .

سارع فى خروج أسرته من المنزل والأتجاه نحو أطراف مدينة إدلب الريفية ، ليتجه بعد ذلك  لفريق الدفاع المدنى ليتولى مهام المساعدة فى إنقاذ الضحايا ، وأصبح الوضع أشبه بالكارثي ، أستمر بالعمل فى محاولة البحث عن من يلتقتون أنفاسهم .

انتشل ذويه.. ليجدهم جثث فارقت الحياة 

لم يتوقع الأحمد هول المشهد الذى أمامة ، مئات المنازل التى تحولت لركام  ملطخة بدماء الضحايا ، قتلى وجرحى يسارعون الموت وينازعون من آلامهم ، يطلقون صرخات ممزوجة بآنين أوجاعهم .
وزٌعت فرق الدفاع المدنى على مستوى المحافظات التى سجلتها الأقمار الصناعية وشهدت سقوط العديد من المنازل ، إتجه «حسن» لمنطقة إرمناز شمال غرب إدلب .

صُدم الأحمد عندما وجد عمه وخاله وأولادهم تحت الأنقاض ، ليسفر التنقيب عن عثورة على 32 جثمان لعائلته من الأب والأم  بعد مروم ما يقرب من 72 ساعة من وقت الزلزال  ،لم يبقى من العائلة سوى أبن عمه  العشرينى على قيد الحياة  .
لم يستطيع أن يستكمل الحديث معنا ..توقف قليلاً عن الحكى حتى تمالك نفسه من تذكره للمشهد الأليم .

أستكمل حديثة قائلاً الوضع كان صعب للغاية من هول الكارثة وضعف الإمكانيات فى البحث عن الضحايا ومحاولة إسعافهم  فضلاً عن تعرضة للإنهيار من فقدان عائلته بأكملها .

الناجون من العائلة 

"كل ساعة يحدث فيها تأخير ..تقلل فرصة البحث عن أشخاص على قيد الحياة " هذه العبارة كانت سبباً فى إلهامه الصبر والسلوان فى وفاه ذويه وأشعلت بداخله واجبه الإنسانى ليتجه بعد ذلك لمنطقة ملس غرب إدلب كانت هى من المحافظات التى شهدت عدد كبير من الضحايا فى الساعات الأولى من الحادث ، حيث أسفرت عمليات البحث الأولى عن وفاة 56 ضحيه وأكثر من 60 مصاباً.

ساهم فى إنتشال شاب وأخته  من عائلة كاجان من تحت الأنقاض هما "احمد وبيان "، بعدما ظل َ على قيد الحياة بعد أكثر من50 ساعة تحت أنقاض منزلهم  المدمر  في بلدة ملس ، واستخرج رجال الدفاع المدني  جثامين عائلتهم ولكن كانوا فارقوا  الحياة. 


تحكى خديجة خطيب  (23عام)" متطوعة بالدفاع المدنى " انها فى الساعات الاولى من حادث الزلزال المدمر توجهت لإحدى المستشفيات الكبرى  "باب الهوا "  رأت الكثير من الناجين بإصابات مختلفة تتنوع بين الجروح العميقة والكسور الصعبة وهناك من جمع بين أكثر من إصابة ، أغلب الناجين كانوا بمفردهم دون أحد من عائلاتهم ، ولكن المشهد الأليم هو وجود أطفال صغار بدون أبائهم وتظهر ملامح الصدمة على وجوههم ، ولا يستطعون النطق من هول الصدمة 
إتخذت «خديجة » على عاتقها مرافقة الأطفال الصغار والمساعدة فى تنقلاتهم لإستكمال الفحوصات الطبية 

«خديجة ..أنا من ساعة ما أتنقلت بالبيت الجديد ماشوفتش خير ..ليش هيك حياتى مدمرة».. بهذه الكلمات عبر الطفل حسن طفل ذو الـ 6 سنوات من عمره عن حجم آلامه فهو من ساكنى  مدينة الأتارب و الناجى الوحيد من عائلته ، عانى الصغير من تصدعات متفرجة بجسدة ، وجرح غائر برأسه ، كان بحاجة للأنتقال لمستشفى أخرى للخضوع لعمل أشعة على رأسه حتى يطمئن الأطباء حالته ، وظلت خديجة تطمئن الطفل ومعانقته للتخفيف من صدمته ، وأخبرته أن أهله بخير حتى تخفف مشاعر الخوف والفزع فى أعين الصغير. 
تصف خديجة حالته " كان همدان  ومصدوم ويفقد القدرة على الإستيعاب وظل طوال طريقة للمستشفى الأخرى  "الرازى "ملتزم الصمت ومستسلم لألامه مردداً فقط عبارة واحدة " أنا ليش أعيش هيك الحياة "

تروى لنا «خديجة» أنها كانت تنقل طفلة أخرى مع «حسن» وبرفقة أحد السيدات التى تنمتى لعائلة الطفلة من بعيد ، الطفلة لم تتجاوز الثلاث سنوات  وهى الناجىية الوحيدة من أسرتها ،كانت نائمة وعيناها منتفختان ومغلقان، ظلت نائمة وهى تنادى "ياماما ..يا ماما " لترد قريبتها " نعم يا روح  ماما ..انا هون جمبك ..لا تخافى " فتصمت الطفلة ثم تكرر نداءها مجدداً لترد عليها السيدة منتحلة صفة أمها أم حتى تهدئ من روعها .

أجهشت «خديجة » فى البكاء لوضع هؤلاء الصغار الذين أصبحوا وحيدين فى الحياة بمفردهم لا يجدون أبائهم وأمهاتهم بجوارهم فى أزمتهم  بعدما كانوا هما مصدر الحماية والأمان وأول من يختبأون فى أحضانهم عند أى أزمة ، أضطرت أن تذهب وتترك الأطفال فى المستشفى لتتولى مهام رعايتهم  ،لكنها عندما همت فى الإنصراف تشبث بها الصغير «حسن» ورفض أن تتركه لأنها أصبحت هى عائلته الآن لكنها عانقته واخبرته أن هناك أشخاص بحاجة للمساعدة وأنها ستعود له لاحقاً ، لكنه لم يرد عليها وظلت الدموع تتساقط من عيناه ، لم تتمالك المشهد لتذهب مسرعة ويظل مشهد الطفل عالقاً فى أذهانها ويعتصر قلبها على فراقه ولكن عليها أن تسرع لإنقاذ المزيد من الأرواح .
تقول "لحد الأن يعتصر قلبى ،وروحى عم تتفتت ،بس بنفس الوقت كان فى كتير أشخاص بحاجتنا "

تستمر «خديجة » فى الحكي لتخبرنا أنها بعد خروجها من المستشفى توجهت لمكان أخر لحق به الدمار ، وإذا بها تجد إمرأة مسنة تبكى بشدة وتدعوا الله بأن ينجي إبنها ، توجهت إليها لمعرفة الوضع ، أخبرتها المسنة أن إبنها أسفل الأنقاض قام بإخراجها هى وزوجته وأبنه الصغير من المنزل ،وعاد حتى يخرج بناته ، لكن سقط المنزل وظل تحت الأنقاض لمدة24 ساعة ، ظلت فرق المتطوعين تحاول الوصول له وتتبع صوته من أسفل خمس طوابق فوقه ، ظلوا يعملون بحذر وباتت الأم والجميع فى توتر لكن لم يحالفهم الحظ فى الوصول إليه قبل أن يلتقط أنفاسة الأخيرة وفجأة توقف الصوت وعلموا أنه فارق الحياة وأصيبت الأم بحالة من الأنهيار العصبى .

معدات غير كافية 

تلتقط أنفاسها ثم تستطرد فى حديثها عن سماعها لصوت طفلة صغيرة تثتغيث منادية "أنا إسراء ..طلعونى " أخبرتها «خديجة » أنها سوف تساعدها ولكن لم تجد معدات حولها ، ذهبت لتحضر أدوات الإغاثة ، لكنها فور عودتها وجدت الأشخاص المدنيين يحاولون مساعدة الطفلة فى الخروج ولكن لقلة خبرتهم  وعدم تدريبهم على إنقاذ الضحايا أسفل الأنقاض زادو من حمولة البنايات المتهدمة فوقها ، لذا إستغرقت عملية إنقاذها 12 ساعة فى حفر أنفاق للوصول لها ، لحظات صعبة روتها خديجة جعلتها تبكى وهى تقول " كنا بناخد الأمل  من كل روح بننقذها "  لتقول بعبارات متهدجة يصحبها بكاءها " نحن نعتذر للضحايا التى لم نتمكن من إسعافهم بطريقة أسرع  لقلة المعدات "

"طفلتان توأم  يحتضنان بعض  أسفل الأنقاد .. وام تحتضن أطفالها وتتخذ وضع الإنحناء لحمايتهم لتتوفى ويبقوا هم على قيد الحياة بدونها ...تلك المشاهد المأسوية لن ننساها ..حتى لو مر ألف عام على تلك الواقعة " لن تنسى حديث إحدى الأطفال وهى تخبرهم  بعد إنقاذها أن أسرتها بالكامل كانت بجوارها ولكنهم متوفيين ، لتقول خديجة " تعجبت من تلك الطفلة الصغيرة التى تعلم حقيقة الوضع الكارثى وتخبرنا بتعبيرتها الطفولية بأن اباها واخوتها وامها ميتين ، فنحن الكبار نمر بأزمة نفسية شديدة إذا كان أبوانا فى أزمة مرض أو حالتهم الصحية خطر وقد يفارقون الحياة ، نظل فى حالة من الإنهيار العصبى ، فما بالك بطفلة تحكى عن تلك الفاجعة " 

تستكمل أن أحد زملائها المتطوعين كان يخرج أمه وزجته وأطفالة من تحت الأنقاض وهو يبكى بنحيب وجميعنا بجوارة نبكى على بكائه ونساعده فى إستخراج جثامينهم ، موضحة أن عدد الضحايا تخطى 2500 قتيل .
مشاهد أليمة روتها لنا خديجة جعلتها تتوقف عن الحديث تارة لتتماسك ، وتارة لتجهش فى البكاء ،لما شهدته من مشاهد مأسوية تدمى لها القلوب ، لكنها مازالت تبحث حتى الأن عن ضحايا أسفل الأنقاد .

الإحصائيات 

وأضاف حمزة مصطفى "متطوع فى الدفاع المدنى السورى " أن عدد الضحايا وفقاً للإحصائات الرسمية يصل لـ2169 قتيل وهناك  مايقرب من 3000 مصاب وقد يزداد العدد فى الساعات القادمة  ،كما وصل عدد القتلى السوريين جراء وقعة الزلزال فى تركيا لـ1200  قتيل ، دمر الزلزال أكثر من 500 بناء تدمير كلى  ، 1500 بناية تضررت بشكل جزئى ، وقد إنتهينا بنسبة كبيرة من إنتشال الضحايا وسوف نعمل على رفع الأنقاض عن الطرق لتعمل بشكل طبيعى وتسهيل وصول المدنيين للمناطق التى لم تتضرر بالزلزال ، وأستقبلنا 52 شاحنة مساعدات من الامم المتحدة وغيرها من الدول العربية التى تضامنت مع الأزمة ، والوضع كارثى بشكل كبير أكثر مما نتخيل ، أكثر من 40 ألف عائلة أصبحت مشردة وبلا مأوى